فصل: من فوائد القونوي في الآية الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وصل بلسان الحدّ والمطلع:
توحيد الوجود:
اعلم أنّ التمييز للعلم، والتوحيد للوجود، لا بمعنى أنّ العلم يكسب المعلوم التميّز بعد أن لم يكن متميّزا، بل بمعنى أنّه يظهر تميّزه المستور عن المدارك، لأنّه نور والنور له الكشف، فهو يكشف التميّزات الثابتة في نفس الأمر.
وتوحيد الوجود هنا عبارة عن انبساطه على الحقائق المتميّزة في علم الموحّد أزلا، فيوحّد كثرتها لأنّه القدر المشترك بين سائرها فيناسب كلّا منها بذاته الواحدة البسيطة.
وإذا تقرّر هذا، فاعلم، أنّ الهداية حكم من أحكام العلم فإنّه ليس لها إلّا تعيين المستقيم من المعوجّ، والصواب من الخطأ، والضارّ من النافع، والأسدّ والأولى من كلّ أمرين مرادين لجلب منفعة أو دفع مضرّة، أو وسيلتين تترجّح إحداهما بالنسبة إلى الغايات المقصودة والمطالب المتعيّنة عند الطالب والمفقودة الغائبة عنه حال الطلب.
وهذا التعيين- المشار إليه المنسوب إلى الهداية- ضرب من التمييز، كما بيّن لك، فالنعمة المقرون ذكرها ب {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} والتعريف التابع من بعد ب {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هي: نعمة العدل والإصابة وثمراتهما، كما بيّن لك من قبل، ونتمّم لك بيانه- إن شاء الله تعالى- والإصابة ثمرة العلم لأنّ الخطأ- على اختلاف مراتبه- ثمرة الجهل، فالأصل فيه العلم لكنّ العلم- من حيث هو علم- مجرّد مطلق عن قيد إضافته إلى شيء لا حكم له، ومن حيث إضافته- مطلق الإضافة- له أحكام شتّى تنحصر في حكمين:
أحدهما: هو من حيث إضافته إلى الحقّ، وله أوصاف كثيرة، كالقدم والحيطة وغيرهما.
والثاني: من حيث إضافته إلى الممكنات، فالنعمة الكلّيّة المختصّة بالممكنات من جهة علم الحقّ هي مطلق اختياره سبحانه لعبده ما فيه الخير، والخيرة له في كلّ حال يتلبّس به، أو مقام يحلّه أو يمرّ عليه، أو نشأة تظهر بها نفسه وموطن يتعيّن فيه النشأة، وزمان يحويه من حيث تقيّده به ودخوله في دائرته، ومكان يستقرّ فيه من حيث ما هو متحيّر، وأوّل كلّ ذلك ومبدؤه هو من حال تعلّق الإرادة الإلهيّة بإظهار تخصيصه الثابت أزلا في علم الحقّ، ثم اتّصال حكم القدرة به لإبرازه في التطوّرات الوجوديّة، وإمراره على المراتب الإلهيّة والكونيّة، وله في كلّ عالم وحضرة يمرّ عليه صورة تناسبه من حيث ذلك العالم والحضرة، وحال تخصّه بحسب ما ذكرنا أيضا، ووديعة يأخذها هي من جملة النعم.
وحظّه من النعم الذاتيّة والأسمائيّة يتفاوت بحسب استعداده وحظّه من نعمة حسن الخلق والتسوية والتعديل والتهمّم به بموجب المحبّة الذاتيّة التي لا سبب لها أيضا حال التصوير.
فكم فرق بين من باشر الحقّ تسويته وتعديله، وجمع له بين يديه المقدّستين، ثم نفخ بنفسه فيه من روحه نفخا استلزم معرفته الأسماء كلّها وسجود الملائكة له أجمعين، وإجلاسه على مرتبة النيابة عنه في الكون، وبين من خلقه بيده الواحدة أو بواسطة ما شاء، ولم يقبل من حكمي التسوية والتعديل ما قبله من اختير للنيابة.
وكون الملك هو الذي ينفخ فيه الروح بالإذن-
كما ورد في الشريعة عنه صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمّه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يؤمر الملك، فينفخ فيه الروح ويقول: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟ ما عمله»؟ فالحقّ يملي والملك يكتب أو كما قال صلّى اللّه عليه وآله: «فأين هذا من قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ»؟ شتّان بينهما هنا أضاف المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال، ولهذا قرع بذلك المستكبر المتأبّي عن السجود له، ولعنه وأخزاه، وقال له: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.
وأكّد ذلك صلّى اللّه عليه وآله بأمور كثيرة منها قوله: «إنّ اللّه خلق آدم على صورته» و«على صورة الرحمان»، وبقوله في الصحيح أيضا الرافع للاحتمال الذي ركن إليه أرباب العقول السخيفة، الجاهلون بأسرار الشريعة والحقيقة، في وصيّته بعض أصحابه في الغزو: «إذا ذبحت، فأحسن الذبحة وإذا قتلت، فأحسن القتلة، واجتنب الوجه فإنّ اللّه خلق آدم على صورته». الخلق بيد وبيدين وقال أيضا صلّى اللّه عليه وآله في المعنى: «إنّ الله إذا خلق خلقا للخلافة، مسح بيمينه على ناصيته» فنبّه على مزيد التهمّم والخصوصيّة. وأشار أيضا في حديث آخر ثابت أيضا «إنّ الذي باشر الحقّ سبحانه إيجاده أربعة أشياء»، ثم سردها، فقال: «خلق جنّة عدن بيده وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده، وخلق آدم بيديه» وقال أيضا: «الإنسان أعجب موجود خلق» فافهم.
كيف ينحرف الإنسان؟
فلا يزال الإنسان مباشرا- في سائر مراتب الاستيداع من حين إفراز الإرادة له من عرصة العلم، باعتبار نسبة ظاهريّته لا نسبة ثبوته وتسليمها إيّاه إلى القدرة، ثم تعيينه في مقام القلم الأعلى، الذي هو العقل الأوّل، ثم في المقام اللوحي النفسي، ثم في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمها في الأجسام، ثم في العرش المحدّد للجهات، ثم في الكرسي الكريم مستوى الاسم الرحيم ثم في السماوات السبع، ثم في العناصر، ثم المولودات الثلاث إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع، بعد استيفاء أحكام مراتب الاستيداع- مباشرة تابعة للمشيئة والعناية التابعتين للمحبّة الذاتيّة بالإيجاب العلمي، فمهتمّ به اهتماما تامّا، ومتساهل في حقّه، كما نبّه على الأمرين صلّى اللّه عليه وآله بقوله في جنازة سعد: «اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» وقال في طائفة أخرى لما ذكر: «إنّ الموت ينتقي خيار الناس الأمثل فالأمثل حتى لا تبقي إلّا حثالة كحثالة التمر أو الشعير لا يبالي الله بهم».
فأين من يهتزّ لموته عرش الرحمن ممّن لا يبالي الله بهم أصلا؟ فكما هو الأمر آخرا، كذا هو أوّلا، بل الخاتمة عين السابقة، فافهم.
ثم نرجع ونقول متمّمين لما وقع الشروع في بيانه: ومكث الإنسان في كلّ عالم وحضرة يمرّ عليها ويهتمّ أهل ذلك العالم والمرتبة به وبخدمته وإمداده وحسن تلقّيه أوّلا ومشايعته ثانيا، هو بحسب ما يدركونه فيه من سمة العناية وأثر الاختصاص، وما من عالم من العوالم العلويّة يمرّ عليه إلّا وهو بصدد التعويق أو الانحراف المعنوي لغلبة صفة بعض الأرواح- الذي يتّصل حكمه به- عليه، والأفلاك بالنسبة إلى البواقي، فيتعوّق أو ينحرف عمّا يقتضيه حكم الاعتدال الحالي الجمعي الوسطي الربّاني، الذي هو شأن من يختار للنيابة، ثم الأمثل فالأمثل.
وإذا دخل عالم المولودات،- وسيّما من حين تعدّي مرتبة المعدن إلى مرتبة النبات وعالمه- إن لم تصحبه العناية ولم يصحبه الحقّ بحسن المعونة والمرافقة والحراسة والرعاية، وإلّا خيف عليه، فإنّه بصدد آفات كثيرة لأنّه بعد دخوله عالم النبات إن لم يكن محروسا معتنى به وإلّا فقد ينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيّته إلى نبات رديء لا يأكله حيوان، أولا يمكن أكل الأبوين أو أحدهما له، ويفسد ذلك النبات الرديء فيخرج منه إلى عالم العناصر ويبقى فيه حائرا عاجزا حتى يعان ويؤذن له في الدخول مرّة أخرى.
ثم بعد دخوله واتّصاله بنبات صالح مغذّ ربما عرضت له آفة من العناصر من برد شديد، أو حرّ مفرط، أو رطوبة زائدة، أو يبس بالغ، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولا آخر، هكذا مرارا شتّى حسب ما شاء اللّه وقدّره.
ثم على تقدير سلامته أيضا فيما ذكرنا بنعمة الحراسة ونعمة الرعاية وباقي النعم التي يستدعيها فقره، ربما تمّ في صورة نبات مّا، لكن تناوله حيوان ولم يقدر للأبوين أكل ذلك الحيوان لمانع من الموانع، أو منع مانع عن أخذ ذلك النبات وتناوله لما لم يكن رزق اللذين سبق في علم الله أن يكونا أبويه.
وإذا قدّر مؤاتاة كلّ ما ذكرنا وتناوله الشخصان المتعيّنان في العلم أن يكونا أبويه أو أحدهما، وصار ذلك النبات كيلوسا، ثم دما، ثم منيّا، فإنّه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوينه منه، فهو مفتقر بعد الاتّصال بالأبوين إلى نعمة الحراسة والرعاية وغيرهما.
فإذا تعيّن في الرحم، فقد تعدّى مراتب الاستيداع وصار مستقرّا في الرحم متطوّرا فيه على الوجه المعلوم عند الجمهور من حيث الشرع، ومن حيث ظاهر الحكمة، فيحتاج إلى حراسة أخرى ومعونة ورعاية لحسن الغذاء واعتدال حركات الوالدة وسلامتها من الأمراض والآفات، وأن يكون انفصاله عنها في وقت صالح سعيد مناسب، فإنّ لحكم الزمان والمكان حال مسقط النطفة وحال الانفصال عن الوالدة مدخلا كبيرا في أمر الإنسان من حيث ظاهره وباطنه.
فالمختصّ بمسقط النطفة من حكمي المكان والزمان شاهدان على كثير من أحواله الباطنة، والمختصّان بحال الولادة شاهدان على معظم أحواله الظاهرة وسرّ الابتداء في السلوك إلى جناب الحقّ سبحانه أو إلى ما يرغب الإنسان فيه ويطلب الاستكمال به ينبّه على الأمر الجامع بين الظاهر والباطن.
وجملة الحال أنّه ما من مرتبة من هذه المراتب التي ذكرناها إلّا والإنسان من حيث الخلق التقديري- المنبّه عليه بقوله عليه السّلام: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام».
وبقوله: «إنّ الله مسح على ظهر آدم فأخرج ذريّته كأمثال الذرّ». الحديث، وبما أخبرنا أنّ تعيّن صور الأشياء في اللوح المحفوظ بالكتابة الإلهيّة القلميّة سابق على التعيّنات الروحانيّة والجسمانيّة- معرض للآفات التي أجملنا ذكرها ممّا لا تستقلّ العقول بإدراكه.
فأين من يكون أحديّ السير من حين صدوره من غيب الحقّ إلى عرصة الوجود العيني، لم يتعوّق من حيث حقيقته وروحانيّته في عالم من العوالم، ولا حضرة من الحضرات متذكّرا حين كشف الغطاء عنه هنا ما مرّ عليه، يسأل عن ميثاق: {ألست} فيقول: كأنّه الآن في أذني وغيره يخبر بما هو أكثر من ذلك، ممّن يتعوّق ويتكرّر ولوجه وخروجه المقتضيان كثافة حجبه وكثرتها، وتقلّبه في المحن والآفات، نعوذ بالله منها.
ثم نقول: وأمّا الآفات والمحن التي الإنسان معرض لها من حين الولادة، بل من حيث الاستقرار في الرحم إلى حين تحقّقه بمعرفة ربّه وشهوده وتيقّنه بالفوز بتحصيل أسباب الرشد والسعادة بل إلى حين تحقّق حسن الخاتمة بالبشرى الإلهيّة، أو بما شاء الله بالنسبة إلى البعض، فغير خافية على العقلاء، وبالنسبة إلى البعض إلى حين دخول الجنّة، كما ورد: «لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط»، فما من مقام ولا حال ولا زمان ولا مكان ولا نشأة من النشآت الاستيداعيّة، والتطوّرات الاستقراريّة، التي ذكرها الله في خلق الإنسان من تراب وماء مهين، ونطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظم ولحم، إلى تمام النشأة الدنياويّة، ثم البرزخيّة، ثم الحشريّة، ثم الجنانيّة إلّا وللّه فيها على الإنسان نعم كثيرة- كما بيّنّا- موقّتة ومستصحبة.
فالموقّتة منها كلّ نعمة هي من لوازم كلّ نشأة وحالة يتلبّس الإنسان بها، ثم ينسلخ عنها في العوالم والمراتب والأطوار التي يمرّ عليها.
وغير الموقّتة والمستصحبة نعمة الحراسة، ونعمة العناية، ونعمة الرعاية، ونعمة قبول الأعمال الذاتيّة، ونعمة صحّة المعرفة اللازمة للشهود الذاتي، ونعمة الارتضاء والقبول الذاتي، ونعمة حسن التعويض والتبديل والإنشاء، ونعمة التخلّي للتجلّي، ونعمة إشهاد الخلق الجديد في كلّ آن، ونعمة حسن المرافقة في كلّ ذلك وسواه، ونعمة الإمداد بما يحتاج إليه في ذاته وخواصّها ولوازمها، وما يحتاج إليه في الوصول إلى مرتبة الكمال الذي أهلّ له، ونعمة التوفيق والهداية المقرّبين للمدى، المنافيين لما عليه العدى، ونعمة العافية، ونعمة تهيئة الأسباب الملائمة في كلّ الأمور.
والأعلى والأشرف نعمة المشاهدة الذاتيّة، التي لا حجاب بعدها- مع كمال المعرفة والحضور معه سبحانه، على أتمّ وجه يرضاه للكمّل- منه ومنهم له دنيا وبرزخا وآخرة، فقوله تعالى: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بالنسبة لمن يعرف ما بيّنّا هو ما أشرنا إليه.
وأوّل موجود تحقّق بالنعم الإلهيّة القلم الأعلى الذي هو أوّل عالم التدوين والتسطير، فإنّ المهيمنين وإن كانوا أعلى في المكانة، لكنّهم لا شعور لهم من حيث هم بأنفسهم، فضلا أن يكون لهم شعور بنعيم ولذّة.
وآخر الموجودات تحقّقا بهذه النعم عيسى بن مريم- على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام- لأنّه لا خليفة للّه بعده إلى يوم القيامة، بل لا يبقى بعد انتقاله وانتقال من معه مؤمن على وجه الأرض، فضلا عن وليّ وكامل. كذا أخبر نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله ثم قال: «لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله الله، ولا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس».
فينبغي لمن فهم ما ذكرنا أن يستحضر عند قوله: {صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} القلم الأعلى وعيسى ومن بينهما، ممّن منح النعم الإلهيّة التي عدّدناها والتي أومأنا إليها إشارة وتلويحا على سبيل الإجمال فإنّه لا يفوته نعمة من النعم الإلهيّة أصلا لأنّ أهلها محصورون في المذكورين ومن بينهما، وسيّما إذا استحضر قوله تعالى على لسان نبيّه: «هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل». وصدّق ربّه بإيمانه التامّ فيما أخبر عن نفسه، وفي وعده بالإجابة وأنّه سبحانه عند ظنّ عبده به، فإنّ الله تعالى يعامله بكرمه الخاصّ واعتقاده فيه لا محالة كما أخبر، وهو الصادق الوعد والحديث، الجواد المحسان.